أعلان الهيدر

السبت، 9 سبتمبر 2023

الرئيسية صور شباب الأمة

صور شباب الأمة



صور شباب الأمة!

بقلم الأستاذ الدكتور / محمد عمر أبوضيف 

عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بسوهاج سابقا- جامعة الأزهر

هناك أمثلة للشباب الصالح، التقى، النافع لنفسه، ولأهله، ولوطنه، ينبغي أن نقدمها لشبابنا التائه، الغارق في بحار الغي والضلال، والذي لا يجد من يأخذ بيده ويرشده الي الصواب، في زمان اختلط الهادي بالهاذي، وعز الداعي إلى الله على بصيرة، وقلّ الموجه للحق، وضاع المعين عليه، مع زيادة الملهيات الصادة عن سبيل الله، والمغريات المقربة للشيطان وطرقه، هذه الأمثلة تملؤ تاريخنا المنير المشرق، الذي غطاه غبار النسيان، ونذكر أحد هذه الأمثلة؛ فنقول: من رزق الله لعبده ومن أكمل نعمه عليه: الولد الصالح، الذي يكون زينة للدنيا وجمالا لها، وليس فتنة ولا منه ضرر، بل هو إعانة لوالده، وأهله، ومن حوله على إصلاح الدنيا، وصلاح الآخرة، وتاريخنا الإسلامي في كل عصوره مليئ بالنماذج الرائعة للشباب الزكي، الصالح، العاقل، الذي ينبغي أن نبرزه لشبابنا؛ ليتخذوه قدوة، وليعلموا أن غيرهم تعرض لمغريات أكثر منهم، وملهيات أعظم مما يتعرضون له، لكنه ثبت واستقام، وما اختل أو اعوج سيره، ومن هذه النماذج الجميلة والجليلة التي تأخذ بالألباب: عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز، الذي نشأ في بيت: ملك، وعز، وجاه، وإمارة؛ فأبوه خليفة للمسلمين، وجده لأبيه أمير كبير، وجده لأمه خليفة، وأخواله خلفاء، ومع هذا نشأ صالحا، تقيا، زاهدا، نقيا، رغم ميعة الصبا، ومرحلة التهور والتفلت، التي يطلق عليها (المراهقة) وعنفوان الشباب، لكنه كان جليلا سيدا، قال عنه ابن رجب الحنبلي:... ففي ذكر أمثال أخبار هذا السيد الجليل مع سنه توبيخ لمن جاوز سنه وهو بطال، ولمن كان بعيدًا عن أسباب الدنيا هو إليها ميال.

 ومن قرأ سيرته، ودرس حياته، وطالع تاريخه سيقول: أشهد أنه من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله فهو: (شاب نشأ في طاعة الله)؛ فقد قال عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب، فكنت معه في بيت، فصلينا العشاء، وآوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح؛ فأطفأه، ثم قام يصلي حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ) الشعراء، فيبكي ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك حتى قلت سيقتله البكاء..؟

وكان رغم البيئة المترفة التي ولد فيها من أزهد الناس، والزهد في الشبيبة عزيز نادر، وفي حالة اجتماع اليسار والغنى والجاه مع الشباب أعز وأندر، بل يكاد يكون بعيدا مستحيلا، إنما الزهد في الشيخوخة محتمل ممكن، لكن عبد الملك الفتى، الغنى، الأمير، سليل الأمراء، وابن الملوك كان زاهدا، فعن ميمون بن مهران قال: دخلت على عبد الملك بن عمر فحضر طعامه، فأتى بقلية مدنية وهي عظام اللحم، ثم أتى بثريدة قد ملئت خبزًا وشحمًا، ثم أتى بزبد، وتمر، فقلت: لو كلمت أمير المؤمنين يخصك منه بخاصة، فقال: إني لأرجو أن يكون أوفى حظًّا عند الله من ذلك، فقلت لنفسي: أنت لأبيك، ودخلت عليه مرة أخرى فإذا بين يديه ثلاثة أرغفة، وقصعة فيها خل وزيت.

وقد ولد رحمه الله سنة 82هـ ومات سنة 101هـ، في زهرة شبابه، وعمره لم يتجاوز التاسعة ، ومع هذا السن الصغير من رآه فضله على أبيه الزاهد، الورع، التقى، سادس الراشدين؛ فقد قال سيار بن الحكم خادم عمر: قال ابن لعمر بن عبد العزيز يقال له عبد الملك، وكان يفضل على أبيه: يا أبي أقم الحق ولو ساعة من نهار. حتى إن بعض أهل الشام كان يقول: كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك. 

ويقول عمر بن عبد العزيز: لولا أن يكون زُيِّنَ لي من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده؛ لرأيت أنه أهل للخلافة. وروى الدورقي: إن عمر قال لابنه عبد الملك يومًا: إني أخبرك خبرًا، والله ما رأيت فتى ماشيًا قط أنسك منك نسكًا، ولا أفقه فقهًا، ولا أقرأ منك، ولا أبعد من صبوة في صغر ولا كبر منك يا عبد الملك.

وكان مصلحا كبيرا رغم صغر سنه فقد كان عبد الملك يعظ أباه فيقول له: يا أبي أقم الحق ولو ساعة من نهار.

وكان قويا في الحق، ينصح به ويدفع إليه، قال لأبيه يومًا: يا أبي ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غَلتْ بي وبك القدور في ذلك.

وكان - رحمه الله- لا يداهن، ولا يتبع هوى الناس في الحق، بل يأمر به، ويصدع وإن خالف رأي الأكثرية، فعندما جمع عمر بن عبد العزيز الناس، واستشارهم في رد مظالم الحجاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين ذاك أمر في غير سلطانك ولا ولايتك، فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه: يا أبي ما من رجل استطاع أن يرد مظالم الحجاج فلم يردها إلا شاركه فيها، فقال له عمر: لولا أنك ابني لقلت: إنك أفقه الناس؛ الحمد لله الذي جعل لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني.

فلم يساير الناس ليرضي ضمير أبيه، ولم يداهنه؛ ليريحه بل صدع بالحق، وهو مكروه، متعب، شاق، وهناك حكاية أخرى عجيبة حدثت من هذا الشاب السيد الجليل جعلت أباه عمر - رضى الله- عنه يرد الأراضى التى كانت فى يده، مما أقطعه إياها بنو عمه الخلفاءُ قبله إِلَى بيتِ المال، ولم يبق فى يده شيء؛ حيث داهنه، وأجابوه بما يرضيه، وإن كان لا يرضى الله، وأبعد عن الحق

لكن عبد الملك ابنه حثه عَلَى فعل ذلك، وعلى المبادرة إِلَيْهِ، حين عزم عليه خشية أن تنفسخ عزيمته عن ذلك إِن أخره إِلَى صلاة الظهر أو يموت قبل فعله.

وقد ذكرها الحافظ ابن رجب الحنبلي، في كتابه الماتع الرائع (سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز) فقال: قال عمر بن عبد العزيز يومًا لمولاه مُزاحم: إن هؤلاء القوم -يعنى بنى عمه من الخلفاء الذين كانوا من قبله- قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ وليس علي فيه دون الله محاسب. قال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدرى كم ولدك؟ هم كذا وكذا. فذرفت عيناه، فجعل يستدمع، ويقول: أكلُهم إِلَى الله -عز وجل-، ثم انطلق مزاحمٌ من ساعتِهِ فى وجهه ذلك؛ حتى استأذن عَلَى عبد الملك بن عمر فأذن له، وقد اضطجع للقائلة. فَقَالَ له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حَدَثَ من حَدَثٍ؟ قال: أشَدُّ الحدثِ عليك وعلى بنى أبيكَ. قال: وما ذاك؟! قال: دعانى أمير المؤمنين، فذكر له ما قال عمر. فَقَالَ عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، هل تدرى كم؟ هم كذا وكذا، قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع، ويقول: أكلهم إِلَى الله - عز وجل-. فَقَالَ عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم! ثم وثب، وانطلق إِلَى باب عمر. فاستأذن عليه، فَقَالَ الآذن: إِنَّ أمير المؤمنين قد وضع رأسهُ للقائلة. فَقَالَ: استأذن لي، لا أمَّ لك. قال: فسمع عمر الكلام فَقَالَ: من هذا؟ قال: عبد الملك. قال: ائذن له، فدخل عليه وقد اضطجع للقائلة فَقَالَ: ما حاجتُك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديثٌ حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيى عَلَى إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه، وقال: الحمد لله الَّذِى جعل من ذُرِّيَّتى من يعيننى عَلَى دينى، نعم يا بنى، أُصلى الظُّهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانيةً عَلَى رؤوس الناس. قال عبد الملك: ومن لك بالظهرِ يا أميرَ المؤمنين؟ ومن لك إِن بقيت إِلَى الظهر أن تسلم لك نيتك إِلَى الظهر؟ فَقَالَ عمر: قد تفرّق الناس، ورجعوا للقائلة. فَقَالَ عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: الصلاة جامعة فيجتمع الناس، فنادى المنادى: الصلاةُ جامعة، فخرجتُ، فأتيتُ للمسجدِ، وجاء عمر، وصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها منهم، وإن ذلك قد صار إليّ، ليس عليَّ فيه دون الله -تعالى- مُحاسبٌ، ألا وإني قد ردَدْتُّها، وبدأت بنفسى وأهل بيتى، اقرأ يا مزاحم، وقد جيء بسفط (صندوق) ذلك فيها تلك الكتب - يعنى: كتب الإقطاعات- قال: فقرأ مزاحم كتابًا منها، فلما فرغ من قراءتِهِ ناوله عمر وهو قاعد عَلَى المنبر، فقصه بالجلم يعنى: المقراض (المقص) فاستأنف مزاحم كتابًا آخر فجعل يقرأ، فلما فرغ منه دفعه إِلَى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال كذلك حتى نودى لصلاة الظهر.

وكما كان هذا السيد في حياته عجيب ففي موته أعجب!؛ فقد قال عمر ذات يوم لعبد الملك ابنه: ما كنت أحب أن أراه فيك إلا قد رأيته إلا شيئًا واحدًا قال: ما هو؟ قال: موتك (أي: يبتلى بفقده، فيكون في صحيفة حسناته) قال: أراكه الله، فأصابه الطاعون في خلافة أبيه، فمات قبل أبيه، ووقف عمر على قبره، وقال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برًّا بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي مسرورًا، ولا والله ما كنت أشد سرورًا ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فرحمك الله، وغفر ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئه، ورحم كل شافع يشفع لك من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمره.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فنون

سينما

يتم التشغيل بواسطة Blogger.