أعلان الهيدر

الثلاثاء، 11 يونيو 2019

الرئيسية أول كتاب في مكتبتي

أول كتاب في مكتبتي

                             أول كتاب في مكتبتي            
  بقلم الأستاذ الدكتور / يوسف نوفل
أستاذ الأدب والنقد بكلية البنات- جامعة عين شمس
مصر 

    






حين وعيت ، وتمكنت من القراءة لأول مرة في حياتي أمسكت بيديّ أول كتاب بعد القرآن الكريم .. كان هذا الكتاب " صحيح البخاري " ، الذي رأيته يحتل مكانته المرموقة في بيتنا بعد كتاب الله ، وعرفت من والدي ، رحمه الله ،أن هذا الكتاب ، صحيح البخاري ، آل إلى والديعن والده ، جدي الحاج عبودة نوفل الذي كان قد أقام وأسس في بداية القرن الماضي ،مسجدا صغيرا جنوبي بورسعيد ، تعارف الناس على تسميته "جامع النوافلة" ، وما يزال موجودا حتى الآن .
  ومع تأسيسه المسجد كان كتاب الله ، وصحيح البخاري هما المكتبة الدينية الموجزة المكثفة في هذين الكتابين ،إلى جانب منْ يفد من الشيوخ والعلماء إلى المسجد لإقامة الشعائر ، أو لرفع الأذان في الأوقات الخمسة ، أو لخطبة الجمعة .
   رأيت من الوالد ـ رحمه الله ـ ترحيبا وتشجيعا لي أن أمسك بكتاب البخاري بين يدي الضعيفتين، وأن أنظر فيه ، وشيئا فشيئا ، ومع نمو مداركي ، وازدياد تمكني من القراءة اكتشفت أن الصفحات الأولى من الكتاب إمـّا فقد بعضها ، أو تمزق ، أو كاد يتمزق ، وما كان مني إلا أنْ قمت بما يشبه ما يقوم به " محققو التراث " قبل أن أعرف أي شيء عن تلك المهمة الجليلة التي قام بها أمثال : الشيخ شاكر ، وعبد السلام هارون ، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ومحيي الدين عبد الحميد، والإبياري ، وأمثالهم بسنوات طوال ، فماذا صنعت ؟ .
  لقد جمعْت الصفحة التي تسبق الصفحة الأخيرة في الكتاب وكانت ـ في الأصل ـ فهرسا ، وأخذت في لملمة قصاصاتها ، وجزئياتها بحرص وعناية بالغيْن ، حتى استوت الصفحة فوق صفحة أخرى تدعمها وتثبّتها من الخلف ، ثم كانت المشكلة الأكبر مع الصفحة الأخيرة التي استعصى عليّ ترميمها على نحو ما رممْت السابقة عليها ؛ إذْ كانت أعطابها أكثر خطرا ، وأشد تعقيدا ، وهنا عمدت إلى صفحة بيضاء ، وريشة ومحبرة ،وأخذت أحاكي ـ كتابة ونسخاـ سطور الصفحة المهترئة البالية ، وأتلمس قراءة كلماتها المبتورة ، وسطورها الناقصة الفانية اجتهادا ، وتخمينا ، وتدقيقا، لا سيما وقد كانت طريقة صفّ الحروف اليدوية في تلك الصفحة على شكل هرميّ قمّته إلى أسفل ، أوعلى شكل مثلث مقلوب ،قاعدته إلى أعلى ، وبذلت جهدا شاقا على مدار أيام متتالية حتى انتهيت من كتابة الصفحة بخط يدي بالحبر السائل محافظا على وضعها الهندسي المذكور .      
   كانت تلك بداية الخطوات الأولى في مكتبتي الشخصية التي عرفتْ الاتساع التدريجي بعد ذلك بالاقتناء والفهرسة والعناية منذ عرفْت طريقي ـ بإرشاد وتمويل من أخي الأكبرالراحل ، رحمه الله ـ إلى سور الأزبكية الذي بهرني بما فيه من تنوع وكمّ لم أقْو على مقاومته ؛ فكان ذلك المصدرهو "التزويد" الحقيقي لمكتبتي بأسعار ، قل إنها زهيدة أو رخيصة أو بخسا . سمّها كما تشاء ، المهم أنها كانت الوسيلة الأساسية في نمو مكتبتي في صدر معرفتي ، أو شغفي ، أو جنوني بالقراءة ، والأدب ، وظلت تزداد عمقا ، واتساعا مع مرور الأعوام ، وماتزال نسخ من كتب ذلك العهد الجميل تحتل مكانها ومكانتها في مكتبتي الضخمة التي بلغت الآلاف عدّا وعددا حتى الآن ، والتي أهديت منه بضعة آلاف إلى مكتبة كلية التربية ببورسعيد ، تلك التي شرفت منذ أكثر من عشرين عاما بتأسيسها وافتتاح الدراسة بها ، وتولّي مسئولية عمادتها .
   صاحبتْ تلك الوسيلة ـ في ذلك العهد البعيد ـ وسيلة أخرى يدوية ؛ فقد ملك عليّ حب الشعر حواسي قراءة أول الأمر ثم محاولات تأليفية ساذجة ، وهنا أجدني حين كنت أنبهر بشعر شاعر أقرؤه في المكتبات العامة ، وعلى رأسها المكتبة الأمريكية ، ومكتبة البلدية ببورسعيد ، أبادر بنسخ القصيدة ، أو المقطوعة التي تروقني بخط يدي في كراسات ، أو في أوراق مجموعة ، حتى تيسر لي امتلاك قدر لا بأس به منها يشكل مختارات شعرية متنوعة ، وظللت أقتني تلك المختارات اليدوية حتى الآن ، برغم امتلاكي معظم الدواوين التي تضمها ، وكم رجعت إليها ، ومن ثم إلى الديوان الأصلي عن طريقها، وذلك في عملي الأكاديمي ، أو النقدي .بل استرشدت بالاختيار فيها حين صنعت مختارات شعرية ، سميتها " المختار من الشعر العربي الحديث " تقوم إحدى دور النشر بالقاهرة بنشره ،ربما مع نشر هذه السطور.
   كانت تلك الخطوات البسيطة لنشأة مكتبتي الخاصة الفضل كل الفضل في كثير من مراحل نموي ، وتطوري ، وعملي ، وثقافتي ، في حلي وترحالي ، وكم كان الأمر مثيرا ومدهشا وسارا حين زرت مكتبة الكونجرس بواشنطن ذات يوم منذ أكثر من عشر سنوات ، وهالني ما رأيتها فيه وعليه من جلال وبهاء وعظمة تفوق الوصف ، والعجيب أنني حين وقفت أمام أحد موظفي المكتبة المختص بالتزويد ، وسمع حديثي مع صديق لي عن مؤلفاتي ؛ فسألني عن اسمي فعرّفته بالثنائي منه فاهتدى إلى بعض مؤلفاتي المقتناة بمكتبة الكونجرس ؛ فلما أخبرته أن لي كتبا أخرى بالاسم الثلاثي اهتدى إلى طائفة غير ما سبق ذكره ، هنا حضرتْ إلى مخيلتي صورة جميلة عزيزة لميلاد مكتبتي المتواضعة ونموها أول أمرها ، والتي ما لبثت أن تضخمتْ مع تضخم سنوات عمري حتى ضاقت بها أمكنة عديدة في بيتي بالقاهرة ، وبيتي في بورسعيد .      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فنون

سينما

يتم التشغيل بواسطة Blogger.