أول كتاب في مكتبتي
بقلم الأستاذ الدكتور / يوسف نوفل
أستاذ الأدب والنقد بكلية البنات- جامعة عين شمس
مصر
حين وعيت ، وتمكنت من القراءة لأول مرة في حياتي أمسكت بيديّ أول كتاب بعد القرآن الكريم .. كان هذا الكتاب " صحيح البخاري " ، الذي رأيته يحتل مكانته المرموقة في بيتنا بعد كتاب الله ، وعرفت من والدي ، رحمه الله ،أن هذا الكتاب ، صحيح البخاري ، آل إلى والديعن والده ، جدي الحاج عبودة نوفل الذي كان قد أقام وأسس في بداية القرن الماضي ،مسجدا صغيرا جنوبي بورسعيد ، تعارف الناس على تسميته "جامع النوافلة" ، وما يزال موجودا حتى الآن .
بقلم الأستاذ الدكتور / يوسف نوفل
أستاذ الأدب والنقد بكلية البنات- جامعة عين شمس
مصر
حين وعيت ، وتمكنت من القراءة لأول مرة في حياتي أمسكت بيديّ أول كتاب بعد القرآن الكريم .. كان هذا الكتاب " صحيح البخاري " ، الذي رأيته يحتل مكانته المرموقة في بيتنا بعد كتاب الله ، وعرفت من والدي ، رحمه الله ،أن هذا الكتاب ، صحيح البخاري ، آل إلى والديعن والده ، جدي الحاج عبودة نوفل الذي كان قد أقام وأسس في بداية القرن الماضي ،مسجدا صغيرا جنوبي بورسعيد ، تعارف الناس على تسميته "جامع النوافلة" ، وما يزال موجودا حتى الآن .
ومع تأسيسه
المسجد كان كتاب الله ، وصحيح البخاري هما المكتبة الدينية الموجزة المكثفة في
هذين الكتابين ،إلى جانب منْ يفد من الشيوخ والعلماء إلى المسجد لإقامة الشعائر ،
أو لرفع الأذان في الأوقات الخمسة ، أو لخطبة الجمعة .
رأيت من
الوالد ـ رحمه الله ـ ترحيبا وتشجيعا لي أن أمسك بكتاب البخاري بين يدي الضعيفتين،
وأن أنظر فيه ، وشيئا فشيئا ، ومع نمو مداركي ، وازدياد تمكني من القراءة اكتشفت
أن الصفحات الأولى من الكتاب إمـّا فقد بعضها ، أو تمزق ، أو كاد يتمزق ، وما كان
مني إلا أنْ قمت بما يشبه ما يقوم به " محققو التراث " قبل أن أعرف أي
شيء عن تلك المهمة الجليلة التي قام بها أمثال : الشيخ شاكر ، وعبد السلام هارون ،
ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ومحيي الدين عبد الحميد، والإبياري ، وأمثالهم بسنوات
طوال ، فماذا صنعت ؟ .
لقد جمعْت
الصفحة التي تسبق الصفحة الأخيرة في الكتاب وكانت ـ في الأصل ـ فهرسا ، وأخذت في لملمة
قصاصاتها ، وجزئياتها بحرص وعناية بالغيْن ، حتى استوت الصفحة فوق صفحة أخرى
تدعمها وتثبّتها من الخلف ، ثم كانت المشكلة الأكبر مع الصفحة الأخيرة التي استعصى
عليّ ترميمها على نحو ما رممْت السابقة عليها ؛ إذْ كانت أعطابها أكثر خطرا ، وأشد
تعقيدا ، وهنا عمدت إلى صفحة بيضاء ، وريشة ومحبرة ،وأخذت أحاكي ـ كتابة ونسخاـ سطور
الصفحة المهترئة البالية ، وأتلمس قراءة كلماتها المبتورة ، وسطورها الناقصة الفانية
اجتهادا ، وتخمينا ، وتدقيقا، لا سيما وقد كانت طريقة صفّ الحروف اليدوية في تلك
الصفحة على شكل هرميّ قمّته إلى أسفل ، أوعلى شكل مثلث مقلوب ،قاعدته إلى أعلى ،
وبذلت جهدا شاقا على مدار أيام متتالية حتى انتهيت من كتابة الصفحة بخط يدي بالحبر
السائل محافظا على وضعها الهندسي المذكور .
كانت تلك
بداية الخطوات الأولى في مكتبتي الشخصية التي عرفتْ الاتساع التدريجي بعد ذلك بالاقتناء
والفهرسة والعناية منذ عرفْت طريقي ـ بإرشاد وتمويل من أخي الأكبرالراحل ، رحمه
الله ـ إلى سور الأزبكية الذي بهرني بما فيه من تنوع وكمّ لم أقْو على مقاومته ؛
فكان ذلك المصدرهو "التزويد" الحقيقي لمكتبتي بأسعار ، قل إنها زهيدة أو
رخيصة أو بخسا . سمّها كما تشاء ، المهم أنها كانت الوسيلة الأساسية في نمو مكتبتي
في صدر معرفتي ، أو شغفي ، أو جنوني بالقراءة ، والأدب ، وظلت تزداد عمقا ،
واتساعا مع مرور الأعوام ، وماتزال نسخ من كتب ذلك العهد الجميل تحتل مكانها
ومكانتها في مكتبتي الضخمة التي بلغت الآلاف عدّا وعددا حتى الآن ، والتي أهديت
منه بضعة آلاف إلى مكتبة كلية التربية ببورسعيد ، تلك التي شرفت منذ أكثر من عشرين
عاما بتأسيسها وافتتاح الدراسة بها ، وتولّي مسئولية عمادتها .
صاحبتْ تلك
الوسيلة ـ في ذلك العهد البعيد ـ وسيلة أخرى يدوية ؛ فقد ملك عليّ حب الشعر حواسي
قراءة أول الأمر ثم محاولات تأليفية ساذجة ، وهنا أجدني حين كنت أنبهر بشعر شاعر
أقرؤه في المكتبات العامة ، وعلى رأسها المكتبة الأمريكية ، ومكتبة البلدية
ببورسعيد ، أبادر بنسخ القصيدة ، أو المقطوعة التي تروقني بخط يدي في كراسات ، أو
في أوراق مجموعة ، حتى تيسر لي امتلاك قدر لا بأس به منها يشكل مختارات شعرية
متنوعة ، وظللت أقتني تلك المختارات اليدوية حتى الآن ، برغم امتلاكي معظم
الدواوين التي تضمها ، وكم رجعت إليها ، ومن ثم إلى الديوان الأصلي عن طريقها،
وذلك في عملي الأكاديمي ، أو النقدي .بل استرشدت بالاختيار فيها حين صنعت مختارات
شعرية ، سميتها " المختار من الشعر العربي الحديث " تقوم إحدى دور النشر
بالقاهرة بنشره ،ربما مع نشر هذه السطور.
كانت تلك
الخطوات البسيطة لنشأة مكتبتي الخاصة الفضل كل الفضل في كثير من مراحل نموي ،
وتطوري ، وعملي ، وثقافتي ، في حلي وترحالي ، وكم كان الأمر مثيرا ومدهشا وسارا
حين زرت مكتبة الكونجرس بواشنطن ذات يوم منذ أكثر من عشر سنوات ، وهالني ما رأيتها
فيه وعليه من جلال وبهاء وعظمة تفوق الوصف ، والعجيب أنني حين وقفت أمام أحد موظفي
المكتبة المختص بالتزويد ، وسمع حديثي مع صديق لي عن مؤلفاتي ؛ فسألني عن اسمي
فعرّفته بالثنائي منه فاهتدى إلى بعض مؤلفاتي المقتناة بمكتبة الكونجرس ؛ فلما
أخبرته أن لي كتبا أخرى بالاسم الثلاثي اهتدى إلى طائفة غير ما سبق ذكره ، هنا
حضرتْ إلى مخيلتي صورة جميلة عزيزة لميلاد مكتبتي المتواضعة ونموها أول أمرها ،
والتي ما لبثت أن تضخمتْ مع تضخم سنوات عمري حتى ضاقت بها أمكنة عديدة في بيتي
بالقاهرة ، وبيتي في بورسعيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق